: الجبهة الاجتماعية.. فرص وتحديات(*)
نشر يوم الأثنين 02 أكتوبر 2006
"الشيخ أبو جرة سلطاني
يمكن أن نبدأ بطرح مجموعة من التساؤلات:
هل تمت دراسة أوضاعنا الاقتصادية ليبدأ فك الارتباط بين سياسة الاعتماد الكلي على ريوع النفط، وسياسة تنويع المصادر؟
ما هي هذه المصادر المحتمل تنويعها والاعتماد عليها؟ وهل الرهان على سياسة الدعم الفلاحي مثلا أعطت أكلها أم أن السياسة الاقتصادية بحاجة إلى مراجعة كلية ضمن استراتيجية دعم النمو بأصلها الكبير المتمثل في برنامج 55 مليار دولار، وفرعيها المتعلقين بتنمية الجنوب وتنمية الهضاب العليا؟
لماذا لا نتحدث بصوت عال عن تحرير سعر الصرف ليأخذ الدينار الجزائري قيمته الحقيقية من "قدرته الشرائية" وليس من حساب الأجر الوطني الأدنى المضمون، كأن نتحرك على قاعدة افتراض نمو اقتصادي حقيقي يدور بمعدل 05 سنوات نمو تتراوح بين 5 و7 بالمئة كما هو حاصل بوطننا تنمويا –حسب الإحصائيات الرسمية- بين 2000-2005 وربما يستمر كذلك بين 2006-2010 مثلا؟
إن فكرة التنمية الاجتماعية التي نتحدث عنها ليست أمراً جديداً ولا تتناقض إطلاقا مع سياسة الحماية الاجتماعية، في بعدها الإنساني والوطني، ولكن الجديد فيها هو الانتهاء من مرحلة الدولة الراعية إلى طور الدولة المنظمة التي تتيح الفرص لجميع مواطنيها ليشاركوا بفعالية "في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية" كما تنص المادة 62 من الدستور.
فالحقوق المكفولة للجميع ينظمها القانون دون سواه والواجبات المفروضة على الجميع يمليها الواجب الوطني وحده، ولا يستثنى من هذه القواعد العامة إلاّ ذوي الحاجات الخاصة.
وقد يقول البعض: إن هذه المسائل معروفة، فما الجديد في هذا الطرح؟ والجواب هو: إن الجديد يكمن في غياب سياسة تأهيل شاملة لواقعنا الاقتصادي والاجتماعي. والتأهيل الذي ننادي به لا ينحصر في الدعوة المشروعة للزيادة في الأجور، وإنما هي دعوة لفتح النقاش في السياسة الاقتصادية المنتهجة.
ولعل خير تعبير عن هذه الحالة يعكسه قول أحد السياسيين عندما قال: "إن العمال في بلادنا يتظاهرون بأنهم يعملون والحكومة تتظاهر بأنها تدفع لهم رواتب.. ويوم تنتهي سياسة المخاتلة تحلّ "المشكلة الإقتصاية برمتها".
وهذه حقيقة مرة لا تحب بعض الأطراف سماعها، ولكنها تعكس واقعا مؤلما.
إن الفرص كلها متاحة، والمؤشرات جميعها إيجابية، والخطابات الرسمية مجمعة على التفاؤل المعزز بالأرقام والإحصائيات، وكل عناصر الإقلاع الاقتصادي متوفرة، والإيجابيات المحققة في الميدان باعثة على الارتياح، بل مشجعة على الاستمرار اعتمادا على ما جاء في الخطابات الرسمية للقاضي الأول للبلاد.
فلماذا إذن نتحدث عن جبهة اجتماعية لها كل فرص الإقلاع والنجاح، وأمامها تحديات تملك الدولة إرادة قوية لتجاوزها؟
الجواب بالمختصر المفيد يكمن في كلمتين:
- الأولى، أن التوترات الاجتماعية المتزايدة وتداعياتها (على جميع المستويات) صارت تشكل مؤشرات سلبية على أوضاع اجتماعية متوترة لم تفلح المسكنات الاقتصادية في تهدئتها، وهو ما يدعونا إلى الإسراع بفتح النقاش الواسع حول الجبهة الاجتماعية برمتها، وليس حول مجرد الحديث عن مسألة رفع الأجور كمطلب تمت إحالته رسمياً على الثلاثية.
إن لقاء الثلاثية إذا تمّ بغير إنضاج للملفات الساخنة، وبغير تقديم لمسودة العقد الاجتماعي ولم يتعرض إلى مناقشة توترات الجبهة الاجتماعية سيكون لقاء بروتوكوليا، لأن العمال لم يعودا يثقون كثيراً لا في النقابة ولا في الباترونا.
فقد تقدم الثلاثية مقترحات تقنية مشجعة على تبني مطلب الزيادة في الأجور بنسبة تتراوح بين 5 و15 بالمئة، وقد تتبنى الإرادة السياسية هذا الطموح المشروع ويصير مكسباً لجميع العمال، بمن فيهم عمال قطاع الوظيف العمومي، ومع ذلك تظل التوترات الاجتماعية قائمة، وقد تتفاهم، والسبب المحرك لكل هذه التوترات الاجتماعية يكمن في شعور المواطن الجزائري بغياب العدالة الاجتماعية، وتفاقم بيروقراطية الإدارة، والمفاضلة بين الناس، والمعاملة التفاضلية التي تمارسها بعض الجهات الإدارية، هذا سبب أول، وهناك سبب ثان يتمثل في المفارقة الواسعة في سلّم الأجور بين القطاع الاقتصادي والقطاع الخدماتي (الوظيف العمومي) فالجزائري العامل لا يفهم طبيعة الفروق الصارخة بين راتب مهندس في الإعلام الآلي مثلاً يعمل في الإدارة الخدمية وشقيق له في نفس التخصص يعمل في الشركة (في الإدارة الإنتاجية)، خاصة أن الفارق يصل أحياناً إلى خمسة أضعاف! ؟
ومع أن الجواب التقني واضح بنص القانون وبالعادة أيضاً، إلاّ أن "العقلية الاشتراكية" مازالت تحكم المنطق الشعبي، بل إن الواقع الاقتصادي يكرس ذلك، فأسعار الماء والكهرباء والغاز والنقل والإيجار.. الخ، كلها واحدة، وكذلك الضرائب واحدة سواء كنت من سكان العاصمة أم من سكان برج باجي مختار، وهذا ظلم اجتماعي كبير بحاجة إلى تصحيح، ذلك لأننا لم نخرج من دائرة الحماية الاجتماعية والتضامن الوطني لندخل في منطق التنمية الاجتماعية والمنافسة النزيهة، وما دامت سياستنا تضامنية حمائية مصدرها النفط والغاز وليس القيمة المضافة ولا الجهد المبذول، فالأصل أن تتوحد رواتب عمال الدولة في النشاطين الاقتصادي والإداري –فكلا هما منتج– وكذلك بين القطاعين العمومي والخاص فكلاهما قطاع وطني (حتى لا تتكرر ظاهرة هجرة الطيارين من الخطوط الجوية الجزائرية إلى شركات خاصة ضاعفت لهم الرواتب بما يقارب 05 مرات، وكذلك تحوّل المستفيدين بالتقاعد المسبق والذهاب الطوعي والمعاش الجزئي.. إلى خبراء في شركات خاصة، بل إلى أرباب عمل في القطاع الخاص يستخدمون إمكانيات القطاع العمومي)، وهذا الاقتراح نفسه ينسحب على فكرة تخفيف الأعباء المشتركة على سكان الأرياف والبلديات النائية والولايات الداخلية كسياسة اقتصادية تمهيدية تجسّر العلاقة بين مرحلة الحماية الاجتماعية باتجاه التنمية الاجتماعية، وتعطي لبرنامج دعم النمو ديناميكية اجتماعية حقيقية من شأنها أن تمتص تشنجات الجبهة الاجتماعية وتحول ظاهرة المطالبة بالحقوق عن طريق الاجتماع إلى ظاهرة المواطنة الكاملة.
وهي ظاهرة سلبية حالياً الشعور بسياسة المواطن بسياسة الكيل بمكيالين، قد تصبح إيجابية ومحمودة إذا وفرنا لها شرطين:
• التحول المتدرج من سياسة الحماية الاجتماعية والتضامن الوطني (إلاّ في حالات خاصة) إلى التنمية الاجتماعية والتنافسية بشروط اقتصاد السوق المرحلي.
• اعتبار القطاعين العام والخاص قطاعاً وطنيا متكاملاً ومندمجاً يسهم في توفير الشغل للأيدي العاملة وتوسيع حجم الثروة ورؤوس الأموال وتحريك دواليب الاقتصاد الوطني وفقا لأولويات وطنية محسوبة واستراتجيات قطاعية تنافسية تهتم أساساً بالاستثمار في العنصر البشري كون التقانية صارت متاحة وقابلة للتصدير والاستيراد.
وفي ظل هذا التحول التدريجي تهتم الدولة بتنظيم جبهتها الاجتماعية.
هذا عن الفكرة الأولى -في نظرنا– المفسرة لظاهرة التناقض بين الراحة المالية والرفاه الاجتماعي والمتسببة في توتر الجبهة الاجتماعية، وأما السبب الأخر فهو سياسة المجانية.
- الثاني، أن سياسة المجانية في التعليم والصحة والسكن مكسب وطني نفتخر به، ولكنها في الميدان التطبيقي داخلتها بعض التغيرات الغامضة التي جعلت كل شيء تقوم به الدولة حقوقاً مكتسبة للمواطن، إذا لم تنجزها الإدارة في أوانها ثار عليها المواطن فأحرق وحطّم مطالباً بحقوقه، بل إن المواطن صار يثور ويحتج لاعتقاده أنه يطالب بدينه على الدولة، فإذا تأخر تسديده وجب على المواطن أن يحتج وينتفض ويعبرّ عن غضبه بالطرق السهلة.
إنه باستثناء مجانية التعليم المقررة دستوريا في المادة 53، بأنها حق لجميع المواطنين بل هي إجبارية في طورها الأساسي، فإن الصحة (ومعها الضمان الاجتماعي) والسكن مثلاً حقان بحاجة إلى تنظيم وترشيد بما يحقق المقاصد الكبرى من رعاية الدولة لذوي الدخل المحدود أو للفئات الخاصة أو لمستويات اجتماعية واضحة حتى لا تبقى الميزانية الاجتماعية الضخمة موجهة للجميع، وفي نفس الوقت، هي عرضة لنقد الجميع وغضب الجميع.. لأن سياسة إدارتها وتسييرها مازالت محكومة بالعقلية الاشتراكية في مسارات الحماية الاجتماعية والتضامن الوطني.
لأجل هذه المعاني قلت، في بداية كلمتي، إن النقاش يجب أن ينصب حول محورين:
- محور السياسة الاقتصادية المنتهجة في بعدها الاجتماعي.
- ومحور النتائج والانعكاسات الملموسة على الواقع المعيشي لكافة المواطنين.
وهذه الندوة الاقتصادية فرصة لفتح النقاش حول هذا الموضوع بعيدا عن التشكيك في النيات، فالدستور نفسه قد ضمن حق الدفاع عن هذه الحقوق بصريح العبارة، وقد جاء فيه (في باب الحقوق والحريات) المادة 33 ما يلي:
((الدفاع الفردي، أو عن طريق الجمعية، عن الحقوق الأساسية للإنسان، وعن الحريات الفردية والجماعية، مضمون))، إذن، فنحن نمارس حقنا الدستوري في الدفاع عن الجبهة الاجتماعية بما نقدمه من تصويبات للسياسة الاقتصادية وكل هذا مدوّن في برنامجنا السياسي.
ومن أهم هذه الحقوق التي ندافع عنها، الحق في العيش الكريم حسب الدستور، الذي جاء فيه أن:
- لكل مواطن الحق في الرعاية الصحية (المادة: 53)
- ولكل مواطن الحق في العمل (المادة 54).
- ولكل مواطن الحق في الحماية والأمن والنظافة (المادة: 55)
- ولكل مواطن الحق في الراحة (المادة: 55)
- ولكل مواطن الحق في تأسيس نقابة (حسب مفهوم المادة: 56)
- ولكل مواطن الحق في الإضراب، ويمارس في إطار القانون (المادة: 57)
ودفاعنا عن الحقوق المقررة دستورياً يدخل في صميم نشاطاتنا كمواطنين مأمورين بنص الدستور أن نحمي الملكية العامة –التي صارت عرضة للنهب والاحتيال- وندافع كذلك عن مصالح المجموعة الوطنية، ونحترم ملكية الغير.. حسب المادة:66.
ولذلك نقولها اليوم بصوت عال: إن السياسة الاقتصادية المنتهجة لا يمكن أن تحقق أهدافها الاجتماعية مادامت مسيرة إدارياً ومحكومة بيروقراطياً.
إذن، هذه الندوة هي فضاء اقتصادي اجتماعي للنقاش حول هذه الإشكالية الجزائرية التي تحاول الإجابة عن سؤال كبير: لماذا نمتلك إمكانيات اقتصادية ومالية ضخمة ونتوفر على فرص متنوعة ومع ذلك لم يتحقق الرفاه الاجتماعي المأمول ؟ بل إننا نحاول أن نطرح هذه الإشكالية في شكل معادلة بحاجة إلى ضبط يصل بنا إلى أحداث التوازن بين الأرقام والمؤشرات الاقتصادية الخضراء رسمياً، ولاسيما منها التي جاءت في خطاب السيد رئيس الجمهورية أمام العمال بمناسبة الذكرى الخمسين للتأسيس، وما جاء في خطابه أما نساء الجزائر في اليوم العالمي للمرأة، وبين المؤشرات البرتقالية الشعبية على صعيد الجبهة الاجتماعية، وما نسجله كل يوم من توترات وانحرافات واحتجاجات وتهديدات لم تشفع لها قوانين المصالحة الوطنية... وهدفنا الواضح هو تجنب نظرية المعالجة عن طريق الصدمة، والابتعاد عن سياسة ((توزيع ريوع النفط)) والانخراط في مسار ((أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه))، وهي في نفس الوقت دعوة لجميع الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، لتثمين قيمة العمل إلى درجة أن تصبح القيمة المضافة شيئا محسوسا يقابله أجر قاعدي محترم، أو يوازي رفعاً للأجر بشكل محسوس نقترحه بزيادة متدرجة، خلال خمس سنوات، تتراوح بين 5 و15بالمئة.
----------
(*) مقتطف من كلمة رئيس في افتتاح اليوم الدراسي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، تحت عنوان: الجبهة الاجتماعية..فرص وتحديات، المنعقد يوم الخميس 09 مارس 2006م بالجزائر.
الثلاثاء، 12 مايو 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق