الثلاثاء، 12 مايو 2009

المنافسة الطاهرة والقائد الذي نريد
نشر يوم الأربعاء 26 مارس 2008


"



أحمد الدان
تمثل القيادة في المشروع الإسلامي واحدة من أهم المهام والوظائف السامية التي ندبت إليها النصوص وحث عليها السابقون في خدمة المشروع الإسلامي عبر العصور، مستلهمين قول إبراهيم عليه السلام (واجعلني للمتقين إماما).



تلك الإمامة التي يتشرف بها الذين يقومون عليها ويعتزون بها لأنها ليست صفة دنيوية يستفيد بها أصحابها كمغنم من مغانم الحياة وإنما يعتبرونها إرثا نبويا لابد له من صفات التجرد والتضحية المناسبة لهذا الحمل القائم على قيادة الناس نحو الخير وهو المعنى الذي يلازم الصفات الأساسية للقيادة الإسلامية التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة الضئيلة عندما قال الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة وتمثل المنهجية القيادية في الحركة الإسلامية صورة مميزة في إدارة شؤون الناس وتحقيق المشاريع والأهداف وتتطلب سمتا معينا في الذين يتولون زمام أمورها.
فالقيادة في الغالب لا ترتبط بشخص بل يمارسها مجموعة متلاقية على أهداف وبرامج والتزامات تفرز من بينها من ينسق شؤونها ويتابع أمرها ويحرص على إتمام أعمالها ويتفقد مستوى إنجازاتها فيدعم ويوجه هذا ويحفز الآخر في شكل من القيم القيادية الموصوفة في النصوص بالتألم لعنت الأفراد والحرص على إنجاح مشاريعهم في ظل الرأفة والرحمة ليصبروا مع الذين يدعون ربهم ولا تعدو عنهم عيناه يخطفها بريق زينة الدنيا تستدرجه ممارسات من أغفل قلبه عن الذكر واتبع الهوى وخلا أمره عن إحكام تنظيمي تضبطه المؤسسات والشورى في خطط واضحة المعالم مستوعبة لكل الطاقات عاصمة بالأمر من أن يكون فرطا
ويشترط لهذا القائد شروطا تتناسب مع مستوى القيادة والريادة وتبرز السبق في الأمر لمجموع القادة الذين يصنعون الأمر ليس بأمانيهم ولكن من خلال احترافهم على أرض الواقع فيتطلب الأمر حيازته لصفات السبق القادرة على أن تجعل من قلوب الأفراد أغشية تحيط به فيأمر وبالحب يطاع تبادر إلى تنفيذ إلتماسة قبل أمره إرادات تعلم أنه يدعوها باتجاه القبلة كما الإيمان تصطف من ورائه الصفوف تسجد بسجوده وتركع بركوعه وتسلم إذا سلّم وأهم هذه الصفات:
1- التعفف:
فلا يطلب لنفسه شيئا ، وهو ضرب من التورع يلزم به القائد نفسه فلا تقوده إلى ما تشتهي بل تأمر هي بما يحقق المصالح وتتعفف عن أعراض الدنيا مدركة أن أمرها لله وأن ما عند الله خير وأبقى ويستجيب للتوجه النبوي إزهد في الدنيا يحبك الله وإزهد فيما عند الناس يحبك الناس.
فمنهجية القيادة لا تلتقي مع رغبات الإشتهاء خصوصا عندما يتعلق الأمر بالنفس إذ هي معرضة للإغراء تستعصم بالرئاسة في تبرير الأخطاء ومد اليد باتجاه اليمين واليسار وإطلاقها في الحق العام خصوصا بالنسبة لحركة تتقدم شيئا فشيئا نحو حيازة مرتبة متقدمة في تسيير شأن الدولة الذي تكثر فيه الرغبات على المكاره.

2- الغضب لله وتجاوز حظ النفس:
فهو مأمور بأن يحرص الحدود ويقف على المحارم وذلك يستلزم قاعدة أساسية هي أن يتجرد من حظ نفسه ويقدم الحقوق الواجبة لله على غيرها من الحقوق فإذا مست سارع بالانتصار لها والغضب من أجلها فيخلص من ذلك غضبه عن شهوة النفس ويتجرد لله ، فيصبح بذلك مهابا في الحق وليس من أجل شكل من أشكال الأشخاص بل إنه يتجاوز بالحلم عن الآخرين عندما يتعلق الأمر بنفسه متصفا بكظم الغيظ والعفو عن الناس والإحسان إليهم.

3- يشاور ولا ينفرد بالرأي:
لأن العمل القيادي مرتبط أساس باستخلاص الأفكار من عقول الرجال ، وتقليب الرأي معهم فمن شاور الرجال شاركهم عقولهم والمنفرد بالرأي يحمل صورة من صورة الاستبداد لا تنسجم مع طبيعة القيادة الإسلامية للمشاريع والأفراد ومن هنا جعل الأمر شورى في المنظومة القيادة الإسلامية مما يقتضي زيادة تعميق هذا المعنى خصوصا في ظل التحولات التي تشهدها المدارس الإدارية اليوم لتركيزها على المؤسسات والعمل المؤسسي الذي يرتكز أساسا على الشورى كمبدأ إلزامي في اتخاذ القرارات الأساسية ولا ينزعج من الشورى القائد الذي يجمع الصفات القيادية المؤهلة بل يتهرب منها فقط ضعيف الرأي قليل الحجة إذا غلبت عليه شهوة النفس في اتخاذ قرار يريد أن يلوي له النصوص ويحرج فيه الأتباع ولذلك قيل: ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام

4- يجمع ولا يفرق:
فمنظومة العمل الإسلامي مبنية أصلا على الاجتماع وثقافة الجماعة ونبذ الفرقة والتنازع ولذلك ترك سيدنا أبو عبيدة رضي الله عنه مبدأ التجميع التطاوعي لا الاختلاف قائلا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم "تطاوعا ولا تختلفا" وهي مذهبية يجب أن يرفعها القائد ويجعلها مجالا يقتدي به الناس عموما وأهل الدعوة خصوصا وذلك من مقتضياته ثقافة التجميع والابتعاد عن التفرق وأسبابه لأن ذلك من خصائص القائد الفاشل الذي يلتزم قاعدة فرق تسد التي هي منهجية في الزعامة الفارغة من القيم والفضائل التي حاربها الإسلام بمنهجية التآخي والمحبة.

5- يفهم ولا يتعالم:
فالقائد هو صورة الجماعة ووجهها الذي يقابل الناس به ولذلك يحرص القائد على حسن السؤال والفهم والاستماع وتقليب الرأي والتبين فيه وربط الفروع بالأصول وقراءة الأحداث في ظل أنواع الفقه المتعددة التي تقلب المقاصد على غيرها وتصنع التوازنات وتفقه الأولويات حتى تصدر القرارات الصائبة والصالحة في الاتجاه السليم بعيدا عن الإدعاء فأخطر ما في القائد أن يدعي علم ما لا يعرف ولا يستفيد من علوم الناس بل يتعالم عليهم ولنا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبول الاستشارة في بدر والخندق وفي قوله:"أنتم أعلم بأمر دنياكم" نموذجا للقائد الذي لا يتعالم على أتباعه ولا على الناس فالقائد كالطبيب إن وصف الدواء عن جهل قتل مرضاه ، ومن الإخلاص حسن العلم والتوفيق إليه ، وقد وصف الله سليمان عليه السلام بالفهم وكان مبرر يوسف في تولي وزارة مصر الفهم والعلم أيضا.

6- يحرس الدين ويعمر الدنيا:
فالقيادة الإسلامية هي قيادة مبنية على القيم ومن واجبها إحياء الإسلام وحتى وإن يئس الناس من استمرار الدور الإسلامي كانت القيادة الإسلامية مبشرة ببقاء هذا الدور واستمراره وصلاحيته لأن مبرر وجودها مبني أساسا على قواعد وقيم الإسلام والدفاع عنها ونقلها كبرامج إلى الناس لعمارة الدنيا من خلالها بعيدا عن المحاباة والرشوة وأكل المال العام والتفريق في إقامة الأحكام بين الأقوياء والضعفاء فالقوي ضعيف أمام الحق والضعيف قوي بالحق ما دام الحق معه وعمارة الدنيا القائمة على الحق هي عمارة يصلح بها العمران وتبنى بها المؤسسات وتنشأ من خلالها قوة الأمم.
تلك أهم الصفات التي تحتاجها الحركة الإسلامية اليوم وهي تخوض معركة كثيرة التحديات وسط لجج من الفتن التي تكتنف التجربة بعد قرابة القرن من المسيرة التي خاضت كل أنواع وسبل وأساليب السير المتاحة والصعبة لتتبلور اليوم من خلال ربط تراثها الإسلامي بتطورات العصر ونقل تجربتها من العموم إلى التخصص ومن الشعارات إلى البرامج ومن البرامج إلى الممارسات التي بدأت تعطي ثمارا تنافس كبريات التجارب السياسية والاقتصادية والاجتماعية واحتاجت اليوم بشكل أكبر إلى من يحسن الاستفادة من كل الطاقات والعمل على كل الجبهات والتأسيس على المبادئ والقيم الضرورية لنجاح المشروع الإسلامي في هذه المرحلة الحساسة التي لا تقبل إلا من خلص له أمرها وتجرد من الضغوطات المختلفة وتطهر ثوبه وصلح محيطه ليستطيع أداء مستلزماتها وواجباتها.

7- القائد تفرزه الجماعة:
ولأنه كما تكونوا يولى عليكم والجزاء من جنس العمل فإن القائد الصالح لن يأتي من فراغ وإنما يخرج من بين الأفراد الصالحين تفرزه الجماعة من خلال المقارنة واحتياج المرحلة وقراءة التجربة وسبر أغوار الخلق والمعاملة والصبر والسر والمبادرة التي هي صفات أساسية يقتضيها موقع القيادة عندما تكون إمامة للمتقين ولا عيب في التنافس حولها لأنها مرتبة من مراتب الصلاح التي يتنافس فيها المتنافسون ضمن قواعد الصفاء الروحي وسلامة الصدر والإخلاص في العمل والتجرد من أخلاق الخصومة والمساس بالآخرين حيث تصبح المنافسة مثل ما كان يصفها الحديث الذي وصف الأنصار بأنهم يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع فيتنافسون على التضحيات ويؤثر بعضهم بعضا عند المغانم.

8- التنافس الطاهر تأسيس أصيل:
وقد أسس السابقون لمثل هذه المنافسات الطاهرة الشريفة وكان عمر ابن الخطاب يسابق فيسبقه أبو بكر في المكرومات ويشرفه أن يسابق أمثال أبي بكر حتى وإن بزّه في السباق ليرسم لنا حدود المنافسة الشريفة سباقا في الخيرات وسموا في فضائل الأعمال يقتدي به المتنافسون على المكارم فالقيادة في الإسلام مكرومة وشرف لأنها تقوم أصلا على التضحيات والأعباء والمعاناة وحري برواد الحركة الإسلامية اليوم أن يؤسسوا مرة أخرى في واقعهم السياسي والاجتماعي لمثل هذه المنافسة الشفافة الطاهرة التي تؤمن أفضل القادة لأفضل المشاريع وأن لا ينزلق إلى ممارسات التيارات الأرضية الأخرى التي تحكمها ولاءات القبيلة والجغرافيا والعرق والدماء والعصبيات بدل أن ترسم المبادئ والأخلاق جغرافية التنافس لديها.
وهذا المعنى هو واقع فرضته طبيعة الأنظمة الأرضية ووسائل إعلامها التي أصبحت تبشر بالزعيم قبل غيره وتضرب عرض الحائط كل طاقات الأمة إذا خالفت الزعيم الأوحد مؤسسة للشخصانية والتعلق بالأشخاص التي يرفضها الإسلام وقيم القيادة فيه.
والحركة الإسلامية في تدافعها داخل هذا الواقع كثيرا ما تنجر إلى ممارسات تشبه أقرانها في عملية التغيير خصوصا عندما تلتقي الغايات حول قواسم مشتركة مثل حقوق الإنسان والحريات والعدالة والتنمية والتعددية وتغفل عن طبيعة المبدأ الرافض لتبرير الوسائل بالغايات بل شرف الغاية يجب أن يسبقه شرف الوسيلة والأسلوب، وبذلك يؤسس السالكون طريق الحق بأنواع أخرى من أساليب التنافس توصل إلى الغايات الحقة بعيدا عن الشبهات وشهوات الطريق يضبطهم في ذلك خوف الله من الانزلاق نحو الذات فالطريق الذي يسلكه الآخرون يؤدي إلى أعراض الدنيا وطريق الدعاة محفوف بالمكاره كطريق الجنة ينبغي على أهله الحذر من الانزلاق خصوصا عندما تلوح أمام المتنافسين غاياتهم المتعلقة بحب الجماهير والتفاف الناس الصارف عن مرضاة الله إلى مرضاتهم وهو امتحان لا يستطيع عبوره إلا من صنع الأخلاص لهم رايات التوفيق فانقادوا إلى الحق وقادوا الناس إليه بالإنصاف حتى على أنفسهم لا يجرمنهم شنآن أحد أن يعدلوا ملتزمين قول الله تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)المائدة8.

ومن العدل في المنافسة النظر في المآلات والنهايات فإن أجواء المنافسة كثيرا ما تصنع تزيينا للنفس فتخطئ في حق من تنافس ولذلك كان الإمام علي رضي الله عنه يقاتل أهل الجمل ويقول:"إخواننا بغوا علينا" ولا يصفهم بما يسيئهم في دينهم وقد انتبه لذلك ابن العربي عندما أسس في القديم لهذا المعنى بكتابه "العواصم من القواصم" وعلى نهجه قعّد ابن مختار الشنقيطي تقعيدا حديثا لقراءة فقه الخلاف السياسي بين الصحابة رضوان الله عليهم وهي الرسالة الموصوفة بأنها رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ أقامها على اثنين وعشرين قاعدة حري بالذين يخوضون في مجال المنافسات والتنافس أن يجعلوها جزء من زادهم فيقرؤوا فيها قاعدة التثبت في النقل والرواية وقاعدة استصحاب فضل أولي الفضل وقاعدة التمييز بين الذنب المغفور والسعي المشكور والتمييز بين منهج التأصيل وقراءة التاريخ وقاعدة الاعتراف بمحدودية الكمال البشري وثقل الموروث الجاهلي وقاعدة اجتماع قلة اجتماع الأمانة والقوة والأخذ بالنسبية وقاعدة عدم الخلط بين المشاعر والوقائع وقاعدة اجتناب الصياغة الاعتقادية للاختلافات الفرعية والتنبيه إلى الابتعاد عن منهج التهويل والتعميم والتأول للنصوص والتفريق بين القصور والتقصير وترك الخطاب القدري والحكم على الناس بالظواهر وترك السرائر لله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق